لي هوكستادر
من المزعج التفكير في أن القطارات في ألمانيا تتأخر بشكل روتيني. والحال أنه بات من غير الممكن الاعتماد على شركة السكك الحديدية الوطنية الألمانية «دويتشه بان»، لدرجة أن جيرانها السويسريين يفكرون حالياً في حظرها خشية أن تتسبب في تأخير قطارات سويسرا المشهورة بدقة مواعيدها. ومؤخراً، اضطرت شركة «دي بي»، كما تُعرف اختصاراً، لدفع تعويضات قياسية لزبائنها الذين أُلغيت رحلاتهم أو تأخرت. والواقع أن فشل «دي بي»، بعد عقود من نقص الاستثمار، يُعد عرَضاً لمشاكل أكبر تقوِّض الآفاق الاقتصادية المتعثرة لألمانيا، مما يعمّق شللها السياسي ويُضعف ثقتها – ويزيد الشكوك بشأن ما إن كان أكبر بلد في أوروبا قادراً على فرض نفسه في لحظة دقيقة. وفي الأثناء، تتزايد المخاطر في وقت بات يبدو فيه من المرجح على نحو متزايد أن تضاؤل الدعم الجمهوري سيعرِّض الأسلحة الأميركية والتمويل الأميركي لكييف للخطر. ذلك أنه إذا أدارت واشنطن ظهرها، سيتعين على أوروبا ملء فراغ القيادة. ولكن ماذا لو حاولت ألمانيا تجنب هذا الدور؟ بعد أيام من اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز لمواطنيه المذهولين أن البلاد بلغت منعطفاً تاريخياً يقتضي تمزيق وإعادة كتابة افتراضات البلاد القديمة، إلى جانب إنفاقها الدفاعي الهزيل. بعد ذلك بـ20 شهراً يمكن القول إن شولتز أحرز بعض التقدم. ولكن بالقدر نفسه من الوضوح تبدو مكامن ضعفه وتقصيره واضحة للعيان. برلين، التي تمتلك ثاني أكبر اقتصاد في الغرب بعد الولايات المتحدة، أصبحت ثاني أكبر مورد للأسلحة إلى أوكرانيا. ففي أغسطس الماضي، أعلنت ألمانيا عن خطط تقضي بتقديم مساعدات عسكرية سنوية لأوكرانيا بقيمة 5.3 مليار دولار حتى عام 2027، وهو ما يمثّل حزمة دعم مهمة للغاية. ظل شولتز معارضاً لمنح أوكرانيا طريقاً نحو عضوية حلف الناتو على الرغم من أن العديد من الدول الأوروبية دعمت ذلك، ومنها فرنسا. وعقب الحرب في أوكرانيا، أعلن المستشارُ الألماني العام الماضي عن إنشاء صندوق خاص بقيمة 105 مليارات دولار لتحديث القوات المسلحة الألمانية الضعيفة خلال السنوات المقبلة. غير أن القليل فقط من تلك الأموال أُنفق حتى الآن، كما أن ألمانيا تفتقر إلى لخطة طويلة المدى لإنفاق 2% من الإنتاج الاقتصادي السنوي على الدفاع، وهو الحد الأدنى الذي وضعه الناتو هدفاً. وفي غضون ذلك، انخفضت ذخيرة أوكرانيا على نحو خطير. الشتاء الماضي، تردد شولتز في تقديم دبابات قتالية من الطراز الأول إلى كييف إلى أن فعل الرئيس بايدن ذلك أولاً. والآن، وفي ما يبدو تكراراً لذاك السيناريو، يرفض شولتز إرسال صواريخ كروز ألمانية الصنع من طراز «توروس» - على الرغم من أن البريطانيين والفرنسيين أرسلوا لأوكرانيا نسخهم الخاصة من تلك الصواريخ - في وقت يتباطأ فيه البيت الأبيض في مدّ أوكرانيا بصواريخ كروز أميركية الصنع. وتمتلك ألمانيا نحو 600 صاروخ «توروس». صحيح أنه لا يمكن لأي سلاح تقليدي واحد أن يغيّر قواعد اللعبة، ولكن صواريخ «توروس» من شأنها أن تعزِّز القوات الأوكرانية بقوة نارية كبيرة. وخلافاً للصواريخ البريطانية والفرنسية، التي يمكنها إحداث ثقوب في الأهداف الكبيرة، فإن الرأس الحربية لصاروخ «توروس» يمكنها أن تدمّر «جسر كرتش» الذي يربط بين روسيا وشبه جزيرة القرم، والذي يعتبره بوتين رمزاً لضم موسكو. هذا ومن المتوقع أن يعرف الاقتصاد الألماني، الذي يعاني من التضخم ونقص العمالة وارتفاع أسعار الطاقة، انكماشاً في 2023، يعد الأكبر بين اقتصادات العالم. وخلال السنوات الخمس المقبلة، يتوقع أن ينمو بشكل أبطأ من اقتصادات الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى، مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانيا. وعلاوة على ذلك، فإنه متخلف رقمياً، إذ يعاني من بطء خدمة الـ«واي فاي» وتقطّع استقبال الهواتف المحمولة. وفي استطلاعات الرأي، يبدو الألمان متشائمين بشأن المستقبل. إذ لا يوجد بلد أوروبي كبير آخر يشعر فيه الناس بمثل هذا القدر من القلق بشأن تدفق المهاجرين، الذين تجتذبهم المزايا الاجتماعية السخية. وعبر الولايات الخمس التي كانت تشكّل ألمانيا الشرقية الشيوعية سابقاً، يؤدي الغضب من تنامي الهجرة غير الشرعية والركود الاقتصادي إلى زيادة الدعم لحزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، والذي يستخدم بعض قادته خطاباً متأثراً بالنازية. ولعل الأكثر إثارة للقلق أن الدعم الألماني العام لمساعدة أوكرانيا أكثر هشاشةً مقارنة بدول أوروبية كبرى أخرى. وهذا يشير إلى أن حذر شولتز إنما يعكس الرأي العام. ولكنه يعني أيضاً أن المستشار، الذي تفتقر حكومته إلى الشعبية، يجد صعوبة في حشد الرأي العام الألماني لصالح قضية يقول إنها بالغة الأهمية.ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»

*كاتب وصحافي متخصص في الشؤون الأوروبية

 

لي هوكستادر*